بين 'تيك توك' والبطالة: إلى أين تسير الأسرة التونسية؟
بعد المؤشرات التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء ونتائج التعداد العام للسكان والسكنى 2024، استضاف برنامج ''واحد من الناس'' مع شاكر بسباس الدكتورة في علم الإجتماع فتحية السعيدي، لمحاولة تحليل الإحصائيات الوطنية التونسية وتبعاتها الاجتماعية، وشرح ارتباط معطيات مثل انخفاض معدل الخصوبة وارتفاع نسبة العزوبة بعوامل اقتصادية واجتماعية.
تراجع في حجم الأسر ومعدل الخصوبة
تشير بيانات التعداد السكاني الوطني إلى تقلّص ملحوظ في حجم الأسرة التونسية، حيث انخفض المعدل من 5.5 أفراد سنة 1975 إلى 3.45 أفراد حاليًا. هذا التراجع يتزامن مع انخفاض معدل الخصوبة إلى 1.7، وهو رقم دون عتبة تجديد الأجيال (2.1)، ما يدق ناقوس الخطر بشأن مستقبل التوازن الديمغرافي في البلاد.
تأخر سن الزواج: بين الرغبة والعجز
تُرجع الدكتورة فتحية السعيدي هذا التراجع الديمغرافي إلى تأخر سن الزواج، معتبرة أنه أحد الأسباب الجوهرية لانخفاض عدد أفراد الأسر. وتوضّح أن تأخر الزواج لا يعكس تراجعًا في الرغبة بتكوين أسرة، بل يعكس عجزًا اقتصاديًا أمام متطلبات الزواج وتكاليف الحياة، خاصة في ظل نسبة بطالة مرتفعة ووظائف غير مستقرة لا توفّر الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي.
تعليم ممتد… بلا أفق مهني
العامل الثاني الذي تؤكد عليه الباحثة، هو طول فترة التعليم وعدم قدرة سوق العمل على استيعاب خريجي الجامعات. هذه المفارقة تؤدي إلى إحباط اجتماعي واسع، وغياب محفزات اقتصادية لتكوين أسرة، ما ينعكس سلبًا على الخصوبة والبنية الأسرية.
إذ لا يقتصر العائق على سوق الشغل، بل يمتد إلى الارتفاع المقلق في تكاليف الزواج والمعيشة، حيث بيّنت دراسات ميدانية أن تكلفة الزواج أصبحت عائقًا حقيقيًا أمام الشباب، وأسهمت في إطالة فترة العزوبة وتأخير مشروع الأسرة، وفق تأكيد ضيفتنا.
الأسرة النووية تحلّ محل الممتدة…
رغم التحول الواضح نحو نمط الأسرة النووية (الزوجان فقط)، تشير السعيدي إلى أن القيم العائلية ما تزال تحتفظ بمكانتها في المجتمع التونسي، الذي ما يزال يُصنّف ضمن المجتمعات "الجماعية"، حيث تؤثر العائلة والجماعة في قرارات الفرد، وعلى رأسها الزواج.
شيخوخة سكانية وضغط على صناديق الحماية
تنبّه عالمة الاجتماع أيضًا إلى أن شيخوخة السكان وارتفاع الأمراض المزمنة لدى كبار السن يشكلان عبئًا متزايدًا على منظومات الحماية الاجتماعية، التي تواجه صعوبات مالية انعكست على تقليص التغطية الصحية والتأمينات. كما تؤكد أن تغير نمط العيش في تونس لم يعد مجرّد مظهر اجتماعي، بل تحوّل إلى نمط استهلاكي مفرط، حيث أصبحت بعض الكماليات السابقة تُعد ضرورات، ما يُفاقم الضغط المالي على الأسر، ويعيد تشكيل طموحات الشباب وقيمهم.
وسائل التواصل تغيّر أحلام الشباب
حذرت السعيدي من التأثير العميق لمنصات مثل "تيك توك" على وعي الشباب، حيث تُروّج لقيم الكسب السريع والنجومية بدل الجهد والعمل والتكوين العلمي. وهو توجه "يُضعف صورة التعليم كمفتاح للمستقبل، ويساهم في ارتفاع نسب الانقطاع المدرسي" على حد رأيها.
ودعت في هذا الإطار إلى ضرورة وعي الأسر والأولياء بخطورة ذلك، إضافة إلى ضرورة تغيير المدرسة وتطويرها لتصبح مكانا يشعر فيه التلميذ بالانتماء، وفضاء ''جذابا'' للتلاميذ لا منفّرا لهم. وهو ما يتطلب دراسة ورؤية شاملة للإصلاح التربوي الفعلي.
الانقطاع المدرسي، الأمية، واستغلال الأطفال
ربطت الباحثة بين الفقر، الانقطاع المدرسي، وعودة الأمية، مشيرة إلى أن بعض العائلات تضطر لسحب أبنائها من المدرسة للعمل، أو تفضّل تعليم الذكور على الإناث. وتُحذّر من تزايد ظاهرة أطفال الشوارع والانخراط في التسوّل والاستغلال من قبل شبكات إجرامية، معتبرة ذلك مؤشرًا خطيرًا على ضعف السياسات الاجتماعية الموجهة للطفولة.
التحولات الاجتماعية مرآة للاختلال الاقتصادي
تُختزل الصورة التي ترسمها الدكتورة فتحية السعيدي في معادلة واضحة، وهي أن التحولات في الأسرة وأنماط العيش التونسية ليست معزولة عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. من البطالة إلى هشاشة الشغل، من تكاليف الزواج إلى تدهور منظومات الحماية، من تأثير الإعلام الجديد إلى الفقر والأمية… كلها عوامل تتشابك لتعكس أزمة عميقة تحتاج إلى حلول سياسية شاملة ومبنية على بيانات دقيقة، وفق ضيفتنا.
أمل الهذيلي
للاطلاع على الحوار كاملا والنفاذ إلى تفاصيل ما جاء فيه، يمكنكم مشاهدة الحلقة كاملة: